الدكتور نجيب ايوب يكتب عن الإفساد الثقافي والعبث بقيم المجتمع

شاركها على

الدكتور نجيب ايوب يكتب عن الإفساد الثقافي والعبث بقيم المجتمع

 

بمناسبة الاحتفال باليوم العالمى لمكافحة الفساد، نتساءل تساؤلا نقديًا حول واقعية الأدب ومحاولات إفساد الواقع، حيث أن مفهوم الواقعية قد أُسيء فهمه وتطبيقه في ظل حالة من ارتباك التعبيرات غير المباشرة وغير المسئولة، عن الخروج لتغيير الواقع الكلي من خلال جزئياته؛ ليكون التأثير في قمة الهرم من خلال تفاصيل قاعدته (الدين _ الجنس _ اﻻقتصاد) للنيل من محرمات ( تابوهات ) السياسة في حيل التفافية حول التصريحات المباشرة؛ لنرى أعمال روائية تكشف عورات المجتمع، مركزة على قبيح مستوره، دون التفات لتداعيات ذلك على الجماهير.

 

كانت لرواية أحمد ناجي (استخدام الحياة) والفصل المنشور منها في جريدة أخبار اﻷدب التي يعمل بها، بعنوان ( حيوانات القاهرة) العدد 1097 والمنشور بتاريخ 3 أغسطس 2014، ردود فعل مثيرة وباعثة على تأمل المشهد الراهن؛ حيث صور فيها القاهرة مدينة فاسدة متخمة بالجنس المريض والسلوك الوقح والنفاق اﻻجتماعي، والنهم الشبقي المغلف بمظاهر العفة الكاذبة واﻻبتزاز واﻻستغﻻل بين طبقاتها وما إلى ذلك من أوصاف مقذذة للمجتمع القاهري، وبالتالي المصري ….؟!.

 

استنطق ذلك على لسان بطله (بسام بهجت) الكاره للقاهرة وفق السياق السردي للرواية، والذي لا يتضمن بسمة ولا ابتهاج، ليخرج العمل الروائي صريحا صراحة مثيرة، حيث لم يكلف الكاتب نفسه مؤنة البحث عن أداء سردي محترف، يحقق غرضه دون خدش لما هو ثابت لدى جماهير متلقيه من المصريين، ناهيك عن المستقبلين من غيرهم، لقد فات الكاتب أن هناك من حِيَل السرد الروائي الفنية، ما يمكن أن يُبَطِّن كثيرٔا من القبحيات في ثياب بﻻغية جميلة وفي ظﻻل خيالية وارفة، أفضل بكثير من تعرية الواقع بهذا الشكل الفج.

 

فالجنس حقيقة بشرية مستقرة بدواخلنا وما فتئ منذ بدء الخليقة، يتحرك بنوازعه ورغباته فينا، حركة الدم في عروقنا والنفس في صدورنا وعلى مر العصور وفي كل الحضارات تتجلى همساته مراوغة للرقيب الثقافي وسلطات المعرفة، لتأتي في كتيبات تُنتشر سرًا أو مضمرة بين حكايات كتب (اﻷغاني، وطوق الحمامة، وألف ليلة وليلة).

 

لقد ظهر الجنس صريحا منذ العرب الجاهليين واختفى في ظل رسالة الإسلام اﻷخلاقية، ثم ظهر على استحياء خلال العصر اﻷموي في صورة الغزل العفيف (العذري) ،والذي تطور إلى النسيب، بجوار الغزل الصريح المكشوف والذي واكبه على استحياء، وبعد اﻻنفتاح اﻷممي للعرب على حضارات العالم  ﻻ سيما في خلافة بني العباس، ظهر اﻷدب المكشوف ، وﻻ يزال في سجال مع الحركة المحافظة حتى اليوم.

 

وﻻ تخفى علينا كتابات: ( أبي نواس، وبشار بن برد، وابن الرومي والنفراوي والتيفاشي والطوسي والسيوطي والقزويني … واستمر حتى إحسان عبدالقدوس  ونزار قباني)  مع ما خرج علينا من غثاء ممجوج بعد ثورة 25 يناير2011، التي فتشت كثيرا مما كان متواريا، من تعبير عن السُعار الجنسي وجوع الشهوة في مجتمع الحرمان والندرة، وفي ظل الوصاية المعرفية ورقابة العرف الجماهيري وكبت السياسة التي حركت ثورة الجماهير.

 

لم تختف إشراقات اﻷدب المكشوف وﻻ إشارات الجنس المُستعرة من اﻷعمال اﻷدبية وﻻ الدرامية، بل ظلت وستظل رابضة تحركها الرغبة في الشهرة والبحث عن إيرادات التوزيع، بإثارة الرغبة والغريزة المشتعلة في كمدها الشرقي، لدرجة أنها تتسرب عبر كُتَيِّبات مجهولة الهوية مع الباعة الجائلين بجوار كتب السحر والشعوذة على أرصفة الطرقات.

 

لقد نسي كُتَّابُنا أن للادب رسالة تربوية سامية ونبيلة، فبجوار المتعة والتسلية هناك الارتقاء بالمشاعر واﻷحاسيس اﻹنسانية والذوق اﻹنساني العام، فإذا كان اﻷدب يعني النسق العاطفي من الكﻻم المسموع أو المقروء أو المشاهد، سواء أعد سلفا أو جاء مرتجلا ، بقصد التأثير في المتلقي؛ فإن هذا المعني يلقي على كاهل اﻷديب مسئولية اجتماعية تربوية ثقافية بل سياسية وأمنية؛ سيحاسبه عليها التاريخ من خﻻل ما خطت يداه، ويكلفه أيضا بأن يجهد نفسه ويعمل مهاراته اللغوية وأدواته الفنية؛ ليخرج عملا يعكس الواقع بطريقة الفنان الحاذق القادر على توصيل رسالته دون وقوع فيما يظهره مستخفا بعقول قرائه، مسفا سخيفا في عرضه الرخيص لعورات تخدش حياء، وتشيع إسفافا.

 

الواقعية لا تعني في مفهومها النقدي المتخصص أن يكون اﻷديب مجرد عدسة لكاميرا ﻻقطة مصورة للواقع في مشاهده المباشرة، وإﻻ فأين دوره الفني واﻷدبي البلاغي؟! أين أدواته اﻹبداعية في تغليف ما يريده من رسائل؟! ولنا في المقارنة بين ما ورد في قصة مريم وميلاد المسيح عليه السلام في القرآن الكريم، من التلميح الفني ذي المهارة اللغوية البارعة في القرآن، مقابل التصريح الفج ﻷحداث زنى المحارم وتعبيرات الشبق والنزوة في كتب أخرى، ناهيك عن قصة امرأة عزيز مصر مع النبي يوسف عليه السلام، في القرآن أيضا مقابل غيره من الكتب، لنرى كم يكون اﻷدب الروائي رصينا بليغا جَذَّابا، دون إسفاف أو خدش للحياء، بالطريق المُسِفٓة، إننا مع حرية اﻹبداع والتعبير، لكن اﻹبداع المحترف الذي ﻻ يتاجر برغبات مريضه لدى المراهقين! ليلعب بمشاعرهم وأخﻻقهم، إننا مع اﻹبداع الرصين الذي ينفع الناس ويمكث في اﻷرض، ولسنا مع من يستعجلون الشُهْرة والشَهْرِيَة من مموليهم؛ ليهدموا صرحنا اﻷخﻻقي، مهما تزرَّعوا بحجج حرية التعبير والصراحة في وصف الواقع.

 

إننا بصدد مواجهة الفساد في اليوم العالمي لمكافحة الفساد، في ظل ما نراه من اهتمام مؤسسات الدولة وأجهزتها الرقابية من تعقب الفساد والمفسدين، فإن الفساد يسبقه إفساد، وأخطر أشكاله هو الإفساد الثقافي والعبث بقيم المجتمع الأخلاقية والاجتماعية، التي تمثل أصلا مؤسسا لهويتنا الوطنية.

حمى الله بلادنا من الفساد والمفسدين.

أ.د/ نجيب عثمان أيوب ..

أستاذ الأدب العربي ونقده بجامعة حلوان ..

 


شاركها على

عن محمد عزت

شاهد أيضاً

الدكتور محمد ربيع يكشف سر خسارة الاهلى لنهائى دورى ابطال افريقيا

شاركها علىاولا أوعى تنسى ولو للحظة أن هذا الجيل من اللاعبين وصل لنهائى البطولة ثلاث …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *